في الوقت الذي تحتجز جانيت ماهر في غزة فهي لم تستحم منذ أسبوعين. تطعم جانيت أطفالها الثلاثة وجبة واحدة فقط في اليوم، والتي لا تزيد في كثير من الأحيان عن الخبز والجبن.
وكان ابن عمها قد لقي حتفه متأثراً بالاصابة التي سببها صاروخ إسرائيلي بينما كان يحمي طفليه البالغين من العمر سبع وخمس سنوات من انهيار الجدار في كنيسة القديس بورفيريوس الأرثوذكسية. وكانت العائلتان قد سكنتا معًا، وكان الابن الأصغر صديقًا لابنها في روضة الأطفال.
ولكن وسط أهوال الحياة تحت الحصار، ربما كان أسوأ الامور هو أن زوج جانيت عالق في مصر.
ويقول حنا ماهر، القس السابق للكنيسة المعمدانية في غزة: ”أشعر وكأنني أم موسى وأخته بعد أن وضعوه في البردي”. ”كل ما يمكنني فعله هو المشاهدة من بعيد.”
ولد ماهر في سوهاج في صعيد مصر، ورعى الكنيسة الإنجيلية من 2012 إلى 2020. لدى وصوله لغزة كان اعزبًا فتزوج من جانيت، وهي ابنة لأب أرثوذكسي وأم معمدانية، خلال السنة الأولى من خدمته في غزة. وعلى الرغم من أن دعوته كانت إلى ”الأماكن الصعبة”، إلا أن الخدمة كانت مرهقة، كما كان الحال بالنسبة للتعامل مع اجراءات أذونات الدخول والخروج المعقّدة في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
منذ عام 2007، فرضت إسرائيل ومصر حصارًا على القطاع الساحلي لغزة الذي تبلغ مساحته 140 ميلًا مربعًا.
وكانت كل إجازة عائلية إلى مصر تبدأ بالشعور بأنه لا ينبغي له العودة إلى غزة أبدًا. ولكن حتى عام 2020، كانت كل رحلة تنتهي بإحساس ماهر المتجدد بالالتزام بالمهمة. في ذلك العام، قبل ماهر منصب القسيس في الكنيسة المشيخية في بني سويف، على بعد 90 ميلاً جنوب القاهرة، وشعرت جانيت – التي كانت ترغب دائمًا في البقاء بالقرب من عائلتها الممتدة – بالسلام. لكن ماهر لم يشاطرها ذلك. وهكذا وبعد ثلاث سنوات، وببركة جانيت ان يجدد دعوته، استقال ماهر من منصبه، وفي شهر أيار الماضي عادت العائلة إلى غزة. وبما أنه لم يعد مرسلًا مبشرًا ممولًا، فقد استغل رحلة الرؤيا المطولة التي اتخذها لاستكشاف فرص خدمة بعيدًا عن المنبر. واخذ يفكر ويدرس امكانية إنشاء مركز تعليمي أو مركز لتطوير الأعمال الصغيرة في غزة وعاد في 28 ايلول بمفرده إلى مصر للبحث عن شراكات في مؤسسات الطائفة.
بعد أقل من أسبوعين نشبت الحرب، ولم يُسمح لأحد بالدخول أو الخروج من غزة.
وقال ماهر: ”لا أستطيع التركيز، ولا طاقة لدي ولا أقدر النوم بعد الهجوم على الكنيسة”. ”أني فقط أشاهد الأخبار وأصلّي من أجل عائلتي.”
انه يكرس الكثير من يومه في محاولة الاتصال بهم. فهو يتصل من الصباح وحتى الليل على هاتف جانيت الخليوي، ولكن مع تلف شبكات الاتصالات جراء القصف، يستغرق الاتصال ساعات. في أحسن الأحوال، تجري بينهما محادثة مدتها خمس دقائق، ولكن عادةً ما يتم قطعها بعد حوالي 60 ثانية.
ذات مرة، فرض ابنه عليه ضحكة مكتومة مترددة: الوضع رائع يا أبي ، اذ لا يوجد دوام مدرسي .
زالت ابتسامة ماهر بسرعة وسط الإحصائيات الكئيبة. h` تشير التقارير إلى مقتل أكثر من 8,000 شخص في غزة، من بينهم ما لا يقل عن 3,324 طفلاً، وإصابة 6,000 طفل آخر. وأفادت وزارة الأشغال العامة في غزة أن 43% من جميع الوحدات السكنية قد دمرت أو تضررت، مع نزوح أكثر من 1.4 مليون من أصل 2.2 مليون نسمة من منازلهم.
وكل هذا حدث قبل أن تستعيد إسرائيل تدفق المياة من الخط الثاني من خطوط أنابيب المياه الرئيسية الثلاثة، في الوقت الذي يقُدر معدل مياه الشرب والطهي والغسيل بنحو 3 لترات يوميًا للشخص الواحد، وهو أقل بكثير من توصية منظمة الصحة العالمية البالغة 100 لتر.
لقد تعرض حي تل الهوى الذي يعيش فيه ماهر في مدينة غزة لقصف إسرائيلي مكثف. واذ تعيش جانيت بالقرب من مستشفى القدس – وقد اتهم بأنه مخبأ لحماس واليه لجأ حوالي 10.000 من سكان غزة النازحين، لم تتمكن جانيت من العثور على طعام على رفوف البقالة المحلية.
واتهمت إسرائيل حماس باحتجاز المياه والغذاء والوقود الضروريين.
لذلك غادرت جانيت بيتهم للاحتماء بكنيسة الروم الأرثوذكس بعد خمسة أيام من بدء الحرب، عندما قُتل صديق مسلم في غارة إسرائيلية على المبنى المجاور لهما. في البداية، توفرت لاستخدامها ولأطفالها قاعة الجنازات بأكملها. الآن، ينام ما بين 400 إلى 500 شخص جنبًا إلى جنب على فرشات في جميع أنحاء المُجمع حيث يتشاركون في ثلاثة حمامات فقط.
لقد تم اطلاق اسم القديس بورفيريوس على الكنيسة التي بنيت في القرن الثاني عشر ويعود تاريخها إلى عام 425 بعد الميلاد، على اسم الأسقف المحلي الذي قام بتبشير المنطقة. ولقد قدّر مجلس كنائس الشرق الأوسط أن حوالي 380 مسيحيًا يحتمون في الكنيسة. ويشكل المسلمون العدد الباقي فيها، وينتشرون في جميع أنحاء مباني المُجمع السبعة.
بعد التفجير في 19 أكتوبر، الذي قال الجيش الإسرائيلي إنه استهدف مركز قيادة حماس القريب من الكنيسة، تم الإبلاغ عن اثنين من المسلمين من بين القتلى، إلى جانب 18 مسيحيا.
بالإضافة إلى ابن عم جانيت، كان من بين هؤلاء القتلى أحدى صديقاتها المقربات، وأخت أحد شيوخ الكنيسة المعمدانية، وأمين المكتبة المعمدانية، وزوجته وحفيدته، وثلاثة أطفال كانوا يرتادون مدرسة الأحد المعمدانية بانتظام.
قبل حدوث التفجير، كانت جانيت تقرأ الكتاب المقدس وتصلي مع الكثيرين.
قال ماهر: ”كانت جانيت تشجع الآخرين في الملجأ”. ”وهي الآن بحاجة إلى من يشجعها.”
وكان ضحايا التفجير أيضاً على صلة بالإنجيليين في الضفة الغربية والأردن . وفقد راعي سابق آخر للكنيسة المعمدانية في غزة، حنا مسعد، عمته، في حين فقد منير قاقيش، رئيس مجلس الكنائس الإنجيلية المحلية في الأراضي المقدسة، زوجة ابنه بالتبني وطفليه. وفي ميشيغان، فقد جاستن عماش، وهو عضو جمهوري سابق في مجموعة حفلة الشاي وأول أميركي من أصل فلسطيني ينتخب لعضوية الكونغرس، العديد من أقاربه من عائلته المسيحية الموسعة، بما في ذلك امرأتان شابتان.
ولكن ايجاد التشجيع لجانيت في غزة قد يكون امرًا صعبًا.
لقد كان عدد السكان المسيحيين المحليين حوالي 7000 عندما سيطرت حماس على القطاع في عام 2007. لكن العدد تضاءل إلى حوالي 3000 في الوقت حين أصبح ماهر راعيًا فيها. ويقول ماهر إن المسيحيين الذين يبلغ عددهم الآن أقل من الالف نادرا ما يذهبون إلى الكنيسة، وأن نفس المئة شخص يترددون على الكنائس الثلاث في غزة – وكثيرا ما يطلبون المساعدة.
إنه يصلي أن هذه الحرب تجعلهم يصرخون الى الله، لكن الحياة تحت الحصار لم تشعل النهضة بعد. وانما بالعكس، فهم مقتنعون بأن الله قد تركهم، إذ رأوا إتمام صفنيا 2: 4 في جيلهم:لان غزة تكون متروكة.
ويقول ماهر: ”على مدى ثماني سنوات كراعي، أخبرتهم أن الأمر ليس كذلك”. ولكن عندما أضع نفسي مكانهم الآن، فمن الصعب أن أطلب منهم أن يثقوا بالله”.
لكن خيارات جانيت والآخرين ليست كثيرة فبقيت العائلة في الكنيسة الأرثوذكسية، على الرغم من مطالبة زوجها المحمومة بتوفير مكان أكثر أمانًا بعد التفجير. ويقول ماهر انها سألته: ”أين يمكن أن نذهب؟”.
”إلى الكنيسة الكاثوليكية؟” – إنها ممتلئة.
”العودة إلى شقتنا؟” – لا يوجد طعام.
”إلى الجنوب؟” – كان ماهر يعرف أن ذلك لن ينجح.
فلقد كان على اتصال بأحد المؤمنين الذي استجاب لتحذير إسرائيل لإجلاء المدنيين على نطاق واسع من مدينة غزة والشمال. وقد فرّ لحد الآن أكثر من 800 ألف شخص من منطقتهم.
لكن هذا المؤمن لم يجد المأوى، وكان الطعام هناك أقل من المكان الذي أتى منه.
ومع ذلك، فقد زادت كثافة حملة القصف في الجنوب، وأفادت وزارة الصحة في غزة أن ثلثي الغارات في الأسبوع الثاني من الحملة استهدفت المنطقة الأقل تمدنًا. وتضاف قصة هذا المؤمن الذي عاد اخيرًا الى منزله بالتنقل إلى حكايات مماثلة لسكان غزة الآخرين الذين يتساءلون : أين يمكنك وضع هذا العدد الكبير من الناس ؟
ويشعر العديد من المحللين، خاصة في مصر، بالقلق من احتمال إجبارهم على الخروج الى مكان آخر.
فبعد حرب عام 1967، اقترح بعض القادة الإسرائيليين نقل فلسطينيي غزة إلى شبه جزيرة سيناء. واقرّت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية بالامر نفسه في ”ورقة المفاهيم” الحالية، في حين اقترح رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت أن مصر وتركيا واسكتلندا تستقبل ”مؤقتاً” لاجئي غزة. كما ويتضمن طلب التمويل الذي قدمه البيت الأبيض لاجل اسرائيل مخصصات إنسانية ”لتلبية الاحتياجات المحتملة لسكان غزة الفارين إلى البلدان المجاورة”.
وتم الآن إجلاء عشرات الجرحى عبر حدود رفح، إلى جانب المئات من حاملي جوازات السفر الأجنبية. ويتواصل ماهر بكثافة مع مسؤولي الكنيسة في مصر ومع سفارة مصر في الضفة الغربية لإضافة عائلته إلى القائمة مع العلم ان أبناؤه يحملون الجنسية المصرية، لكن جانيت لا تحملها.
ويقول ماهر: ”أشعر أن عقلي سوف ينفجر”. ”ليس لديهم وقود للوصول إلى الحدود، والخيار الآخر الوحيد هو البقاء وسط القتال”.
ويعيش معظم المسيحيين في غزة في البلدة القديمة في عاصمة القطاع. ويبعد المستشفى الانجليكاني الاهلي حيث تقع الكنيسة المعمدانية مسافة خمس دقائق فقط سيرا على الاقدام عن المُجمع الارثوذكسي. وبحسب ما ورد، فإن الغالبية لا تزال في مكانها على الرغم من الاخطار بضرورة الإخلاء، ومع وجود العديد منهم في ملاجئ الكنيسة. في الأسبوع الماضي، تم تعميد تسعة أطفال ”خوفًا من احتمال حدوث امر سيئ” مرة أخرى.
”ماذا ايضًا يمكننا ان نفعل؟” سأل كامل عياد مسؤول الإعلام بكنيسة القديس برفيريوس. اننا ”نريد أن تستمر الكنيسة الحية في شهادتها في غزة.”
ويتواصل ماهر مع مختلف الطوائف لإجراء محادثات قصيرة بالكاد تصل الى دقيقة واحدة.
وأضاف: ”لقد ظنوا أنهم سيكونون آمنين”. ”ولكنهم الآن يقولون لي جميعاً: ليس لدينا أمل، وسوف نموت، إنهم يبيدوننا. ”
مثل العديد من رفقائهم الفلسطينيين في غزة، ليس لدى المسيحيين المحليين أي حب خاص لحماس. ووفقاً لاستطلاع أجري في شهر يوليو/تموز، يؤيد 70% من السكان حكم السلطة الفلسطينية، بينما يؤيد 62% استمرار وقف إطلاق النار. وقال نصفهم إن على حماس التوقف عن الدعوة إلى تدمير إسرائيل وقبول حل الدولتين. ووصف ما يقرب من ثلاثة أرباعهم حماس بأنها ”فاسدة”.
ومع ذلك، لا يجد الفلسطينيون سوى بدائل قليلة للتغلب على الحصار. وأشار حوالي ثلاثة أرباعهم إلى تأييدهم لحركة الجهاد الإسلامي، منافسة حماس، في حين أظهر استطلاع آخر أن 79 في المائة من سكان غزة يفضلون المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
وفي استطلاع للرأي أجري عام 2020 بين المسيحيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، أعرب 66% فقط عن ثقتهم في السلطة الفلسطينية، بينما أعرب 69% عن قلقهم بشأن الفصائل المسلحة المشابهة لحماس. وفضلت الأغلبية (61%) حل الدولة الواحدة.
إلا أن إسماعيل هنية، زعيم حماس، صرح بأن أعمال حماس تمثل المجتمع الغزاوي بأكمله. واتفق معه الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ قائلا إن سكان غزة يتحملون مسؤولية جماعية.
في هذه الأثناء، تعب ماهر من الخطاب السياسي. لقد اندهش عندما سمع قسًا أمريكيًا صديقًا له على الفيسبوك يعلن أن ”جميع سكان غزة إرهابيون”. لم يكن هذا القس مجرد على معرفة بماهر، فقد ساعد ماهر في وقت سابق هذا القس على تطوير برنامج خدمة للامتداد مع العرب في بلدته. بعد عدة مراسلات وحوار معه، يقول القس الامريكي الآن إنه يصلي من أجل الأبرياء من كلا الجانبين. ويعتقد ماهر إن في ذلك تقدم ما.
ولكنه بشكل عام غاضب من حماس ومن إسرائيل ومن وجهة النظر الغربية بشأن هذه الحرب. وبينما يناقش العالم مدى شرعية حملة القصف الإسرائيلية لاستئصال الإرهاب المتأصل في واحدة من أكثر المناطق المدنية كثافة سكانية في العالم، فإن زوجته وأطفاله يمثلون الضرر الجانبي الذي يتجاهله الكثيرون في مواقفهم السياسية. فهم يمثلون أيضًا جسد المسيح.
وفي حين يعي ماهر هوية جمهوره فهو يختار كلماته بعناية. لكن لديه رسالة تتجاوز طلب الصلاة من أجل الأمان والسلام، فهي تتضمن الحداد على أقاربه ورعيته السابقة.
يقول ماهر: ”كن إنساناً”. ”تذكروا الأطفال الذين قتلوا في هذه الحرب، وتعاطفوا معهم.”
–