“ان موت واحد هو مأساة؛ مليون ميتة هي إحصائية”. هذا الاقتباس الذي يُعزَى احيانًا الى جوزيف ستالين، يصف الحياة تحت حكم النظام الدكتاتوري السوفييتي الذي مات فيه في الإعدامات الجماعية، في مخيمات الاعمال الشاقة، في السجون وفي المجاعة ما يقدّر بما بين 6 و20 مليون انسان.
كان ضمن هؤلاء عشرات المطارنة الروس الأرثوذكس وآلاف الكهنة، الذي قتلوا احيانًا على يد فرق إطلاق نار. عدد كبير آخر من المسيحيين الأرثوذكس اعتُقلوا وأرسِلوا الى مخيمات الاعمال الشاقة. وقد تم تطهير الاتحاد السوفييتي من المثقفين؛ وكثير منهم ماتوا في السجون ومخيمات التركيز، والذي أقيم الأول منهم فيما كان سابقًا دير ارثوذكسي في جزر سولوفيتسكي في عام 1923. وقد عانى القادة الدينيون والعلمانيون من أنواع العذاب المختلفة تحت حكم ستالين، والذي درس مرة كطالب في المعهد اللاهوتي في تبليسي.
بالنسبة لذلك الدكتاتور عديم الرحمة لم تكن تلك الميتات لاناس يمكن البكاء عليهم. لقد كانوا مجرد ارقام مصفوفة في أعمدة، ومعطلات مزعجة في طريق الوصول للهدف السياسي. انها احصائيات وليست مآسي.
اننا نعرف ان “احصائيات وليس مآسي” هو نموذج غير انساني. بنفس الوقت، قد يكون من السهل علينا ان نرى تقديم الشهادة الجماعية كمجرد معطى وليس كأنه مصير أفراد.
وتعرّف قاعدة البيانات المسيحية العالمية الشهداء بأنهم “مؤمنون في المسيح ممن خسروا حياتهم قبل اوانها في حالات من الشهادة نتيجة لعداء انساني”. بحسب هذا التعريف، فان أكثر من 70 مليون مسيحي قد استشهد في الالفي عام الأخيرين- وأكثر من نصفهم في القرن العشرين تحت الأنظمة الستالينية والشيوعية والفاشية والنازية وكثير ايضًا في القرن الواحد والعشرين تحت احكام عسكرية إسلامية في مواقع في كل انحاء شمال افريقيا وغرب آسيا. منذ 2020 فقد تم تسجيل شهادات في مينيمار واوغندا وموزنبيق والسودان والجمهورية الديمقراطية للكونغو والهند وبوركانا فاسو ومالي ضمن دول أخرى.
“ال-21” هو فيلم قصير جديد يصوّر قطع الرؤوس الفظيع ل-21 مسيحي من قبل مسلحي داعش على شاطئ في ليبيا في 2015 وهو يصدّ ميلنا لتخدير أنفسنا من هذا الواقع. (يذكر ان المسيحية اليوم هي منتج تنفيذي للفيلم). أنتج الفيلم “منتجات مور” وتم احياء الصور عن طريق فريق من حولي 100 فنان من حول العالم. ويكشف الفيلم الروحانية والتضحية لموضوع الفيلم وهم 20 مسيحيًا من مصر وواحد من غانا- وكلهم عمال مهاجرين اعتقلوا لمجرد كونهم مسيحيين. لقد تم سجنهم وتعذيبهم وتحطيمهم وواجهوا الضغط ان ينكروا ايمانهم، ولكنهم أبوا ان يفعلوا ذلك.
لكن السياق الاوسع لهذه الحلقة هو اضطهاد المسيحيين في المنطقة المدارة من الداعش في العراق وسوريا، حيث تم اعدام الاف المسيحيين وفرضت العبودية الجنسية على النساء والفتيات وتم خطف رجال الدين واغتيالهم في محاولة عديمة الرحمة لدحر الدين خارج المنطقة. لقد كانت سياسة الداعش واضحة في “ال- 21”: انكر ايمانك او مُت. حين وقفوا امام هذا القرار المميت اختار الاسرى ان يموتوا.
لقد تم انتاج الصور المتحركة في أسلوب قبطي حديث باعث للفن الأرثوذكسي ذو التاريخ الطويل وهي تدمج الواقع الأرضي مع الروحاني. يلمح مقاتل من داعش يسوع حوله هالة يجلس بجانب السجناء المكبلين والعُصابات على اعينهم في مؤخرة عربة فان مقرقعة. وبينما يرتجفون من البرد ليلًا وهم على ارض السجن الرطبة، غنى الرجال ” كيرياليسون ” وشقّ الرعد والبرق عباب السماء، ورفرفت حمامة عبر الأفق. “كلما كانوا يُعذَبون اكثر” يقول الراوي، ” كلما ظهر ان ايمانهم آخذ بالنمو”. مرة أخرى يظهر يسوع وعينيه تلمعان في ظلال الزنزانة. وتطل الصخور من الأرض. “فجأة تبدأ الأرض بالهز وكأنها هزة أرضية”، يقول الراوي،” وخاف رجال داعش.” حين سار الرجال اخيرًا الى موتهم، ترافقهم شخصيات آخروية، وتنعكس صورتهم في المياه المالحة.
ويضم الفيلم مشاهد من الفيديو الدعائي الداعشي لعملية الإعدام. ان هذا اختيار جرئ ولكنه هام لصنّاع الفيلم- وهو خيار يمنع جمهوره من فقدان التركيز على الحقيقة الموجعة ان هؤلاء الرجال كانوا رجالًا حقيقيين يواجهون معاناة حقيقية. ان هذا التباين صادم: المشاهدون يُواجَهون فجأة وجهًا لوجه، ليس مع صور توضيحية فنية او علم رسم الايقونات، لكن مع الشهداء نفسهم – اولًا وهم يسيرون عبر الرمال بلباسهم البرتقالي وبعدها كيف تحولت الأمواج الى اللون الاحمر بدمائهم.
“ال-21 ” يقصّ رواية شهادة واحدة في اقل من عشرة دقائق، وبهذا تحيي قصة حياة اقل من دزينتين من الأزواج، الاخوة، الأبناء والاباء في تفصيل جميل من الصور المتحركة. لكن تلك العشرة دقائق هي ذات أهمية. ان هؤلاء الرجاء يقدمون شهادة للإيمان المسيحي تحت الضغط. ان عيشهم وموتهم يجد مكانه بجانب مسيحيين آخرين ممن يستمرون في اتخاذ الخيارات الشجاعة في وجه العنف والاضطهاد.
لقد استشهد أكثر من 50 الف مسيحي في نيجيريا منذ 2009 على يد بوكو حرام، داعش- غرب افريقيا ومسلحي فولاني. لقد تم تهجير ملايين كثيرة أخرى- الامر الذي خلق ازمة إنسانية صعبة. لقد تمّ القضاء تقريبًا على المسيحية في سوريا، اذ هوت نسبة المسيحيين في البلاد من 10% (عام 1975) الى 2% (عام 2025). ان الوضع مشابه في العراق اذ فرّ المسيحيون وقُتلوا بعد اجتياحات الولايات المتحدة (2003) وداعش (2014-2017). لقد كانت امام المسيحيين ثلاث خيارات تحت داعش: ان يعتنقوا الإسلام، ان يدفعوا الجزية او ان يموتوا. لقد كان عدد افراد المجتمع المسيحي في الموصل أكثر من خمسين الفًا وانخفض الى حوالي 20 عائلة مسيحية.
كل شهيد عبر التاريخ المسيحي حمل اسمًا، عائلةً وايمانًا. ليت “ال-21” يكون تذكيرًا ليس فقط عن الحياة المفقودة وانما عن ثمن اتباع المسيح تحت أكثر الظروف تطرفًا.
جينا أ. زورلو هي محاضرة زائرة في المسحية العالمية في كلية اللاهوت في هارفارد وهي محررة في مركز بيانات العالم المسيحي.