هذه سلسلة من ثلاثة اقسام عن الطائفة العلوية في سوريا والمذبحة التي نفذت فيها في آذار.
كنيسة صغيرة في ريف طرطوس غرب سوريا تقيم خدمة: عيد الأم” غير اعتيادية في آذار الفائت.
كانت الفقرات تقليدية، اذ قرأ راعي الكنيسة من سفر الأمثال الأصحاح 31 ورسالة بولس الرّسول الى أهل كورنثوس الأصحاح 13. كذلك كانت ترانيم التسبيح، وبضمن ذلك النسخة العربية لترنيمة ” يا سيدي لما أرى نجومك”.
كانت الأشغال اليدوية والتضييفات الخفيفة والكعكة مثل تلك التي تُقدَم في أي اجتماع للشبيبة. استمتع خمسون من الأمهات واولادهم بالطقس البارد في خيمة كبيرة على جانب البحيرة تحت سماء رمادية لطيفة. فتيات متحمسات مثلنّ مثل الابن الضال وركزنّ على حقيقة ان محبة الله هي للجميع. كانت تلك رسالة تقليدية ايضًا.
لكن الجانب غير الاعتيادي كان هوية الجمهور. نصف العائلات كانت من السوريين العلويين وهي طائفة إسلامية ذات عقيدة مخالفة، التي نجت قبل ثلاثة أسابيع من مذبحة راح ضحيتها اكثر من 1700 رجل وامرأة وطفل من طائفتهم.
يُحتَفَل في عيد الام في سوريا في 21 من آذار (مارس)، منح الاحتفال القليل من الفرح في خضم مأساة عظيمة. كانت الخدمة ناجحة لدرجة ان الكنيسة كررتها مرتين اضافيتين في الأسابيع التالية، حسب باسم خوري، راعي الكنيسة. وافقت “المسيحية اليوم” الا تستعمل اسمه الحقيقي حيث ان الدولة ما زالت غير مستقرة.
يقول خوري: “ان الألم هو فرصة لتوجيه الناس الى محبة الله”
وصف خوري كيف خدمت كنيسته الانجيلية مئات العلويين الذين فرّوا من القرى الساحلية جبلة وبانياس ومن أماكن ابعد مثل حماة وحمص، وهي مدن تبعد خمسين ميلًا الى الشرق. قدم مسيحيون محليون الطعام والدواء وكلمات التعزية. وعظ خوري عن يسوع- وأيضا عن المصالحة بين المجموعات الدينية المتعددة في سوريا: مسلمون سنّة وعلويون ومسيحيون من الروم الأرثوذكس. كما وشهدت العائلات وحدةً، يصلى الراعي ان شعبه سوف يعكسها يومًا ما.
خدم خوري مستندًا على خبرته الكبيرة. خلال 14 عامًا من الحرب الاهلية السورية، قدم المساعدات للعلويين وللمسلمين والمسيحيين النازحين بسبب الاقتتال. البعض اتى من رقا، التي كانت يومًا ما مقرًا لخلافة داعش المزعومة. البعض الآخر اتى من حلب، حيث قاد الرئيس الحالي لسوريا، احمد الشرع، هجومًا قامت به قوى الثورة.
وصلوا الى طرطوس ومدينة اللاذقية المجاورة، طالبين الأمان في منطقة اعتبرت معقلًا علويًا للرئيس آنذاك، بشار الأسد. استولى حافظ الأسد على الحكم عام 1970 في انقلاب قامت به الطائفة العلوية وخلفه ابنه بشار الأسد، وقام كلاهما في تعيين علويين من طائفتهما في مراكز رئيسية في الحكومة والجيش. اما الآخرين فكدحوا في الحقول الزراعية، بينما دعم النظام الموالين من كل الطوائف بدلًا من الاعتماد على طائفة واحدة.
العلويون هم فئة انشقت عن الإسلام الشيعي في القرن التاسع، اغلبيتهم يسكنون في المنطقة الساحلية السورية والمنطقة الجبلية، ويعيشون بين المسلمين السنّة والمسيحيين الذين غالبيّتهم من الروم الأرثوذكس. تشكّل الطائفة العلوية 10-13 بالمائة من مجموع السكان، انتقلت الى عزلة نسبية في القرن الثالث عشر لكي تهرب من الاضطهاد نظرًا لعقيدتها المخالفة. (في أجزاء قادمة من هذه السلسلة ستقوم “المسيحية اليوم” باستطلاع الايمان العلوي والاجابة عن السؤال لماذا تعتبرهم مجموعات إسلامية أخرى بدعة).
خلال الحرب الاهلية، استولى الثوار على كثير من الأراضي السورية ولكنها لم تطرد النظام من طرطوس واللاذقية. حضنت جبلة بناء رئيسيًّا للجيش قرب القاعدة العسكرية لحلفاء الأسد من الروس. عانت بانياس من مذبحة لسكانها السنّة في 2013 بعد ان صدّت الحكومة هجوم الثوار. لكن بشكل عام، بقيت المنطقة مختلطة دينيًا. مع استمرار الحرب، قاد الاستقرار النسبي المحلي كثيرين من النازحين داخليًا من كل الطوائف الى طلب اللجوء.
اتى خوري اولًا في أوقات أكثر سلمية، كان يسافر للوصول مدة ساعة تقريبًا. في عام 2009 ابتدأ بزرع كنيسة في قرية للعلويين والمسيحيين من الروم الأرثوذكس في مكان ليس بعيدًا من القلعة الصليبية “قلعة الحصن”. مع نشوب الحرب الاهلية في 2011 انخفض عدد أعضاء كنيسته الى حوالي الصفر اذ ان أعضائه هربوا بسبب الصراع.
لكن حين وصل السوريون النازحون، انتقل خوري الى ريف طرطوس بشكل كامل. كان يقدم نفسه للأفراد المتعبين الذين كانوا يصلون الى ساحة القرية فيعرض عليهم الطعام والمساعدة الطبية، وكان يتابع ذلك في زيارات بيتية. انتشر الخبر، فأتى أخرون ايضًا. وفي كل لقاء يجريه، كان واضحًا بخصوص إيمانه. مع مرور الوقت، أصبح خوري يعمل مع شبكة من 10 كنائس انجيلية التي تقدم المساعدات لألفي عائلة.
فوضى الحرب فتحت المجال للشهادة المسيحية خارج مجموعته الكنسية. لكن السلطات المحلية اتهمت الكنيسة باستغلال النازحين، حسبما قال خوري. وكان جواب خوري انه لم يتكلم ابدًا ضد ديانة أي كان، وانما فقط شارك بإيمانه.
لكن بعدها وفي كانون اول، سقط نظام الأسد.
“كانت سوريا بلد منهكة تمرّ في موت بطيء”، يقول خوري. ” والآن ومع التغييرات السياسية السريعة، فإننا نختبر “اضطراب ما بعد الصدمة”.
كان نصر الثورة السريع صادمًا، كما يقول، واستولى الخوف على المنطقة. طمأن الشرع، الرّئيس الجديد، الأقليات الدينية بانه سيتم شملهم في سوريا الجديدة. وحتى ان النظام الجديد عرض ان يضع حارسًا على كنيسة خوري، وهو اقتراح رفضه الأخير. لكن في كانون اول (ديسمبر) انتشرت فيديوهات عن اعتداء حرق على مقام علوي في حلب وحرق شجرة عيد الميلاد في قرية مسيحية قرب حماه.
بعدها انتشرت رسائل غامضة على وسائل التواصل الاجتماعي تؤجج العنصرية ضد العلويين. كان لدى السكان المسلمين السنّة تراكمات من الشعور بالاستياء ضد الطائفة، إثر حكم الأسد المستبد والطويل. فاستعان المتطرفون الإسلاميون بفتاوى من القرون الوسطى ومن الفترة العثمانية، ليعلنوا ان العلويين ليسوا مسلمين ومستحقين الموت.
ابتدأت المذبحة في السادس من آذار (مارس) وقد اثارتها مجموعات ارتبطت سابقًا بالأسد حين هاجمت القاعدة العسكرية في جبلة. وفي 8 آذار أعلنت الحكومة انها استعادت سيطرتها على كل المناطق التي تأثرت. لكن خلال ذلك الوقت وفي الأيام التي تلتها، قامت ميليشيات تابعة للنظام الجديد بالتنقل من بيت لآخر عبر المنطقة وتقتل السكان العلويين.
عرف خوري ما يجب ان يفعله – تمامًا مثلما فعل قبل ذلك. لكن هذه المرة كان جيرانه بحاجة للمساعدة أيضًا. في الوقت الذي لم تُهاجَم قريته، فقد اصبح كل العلويين في الخطر. وبينما توافد الآلاف الى المنطقة وازدحمت الشوارع بالسيارات، وضع خوري رقم هاتف الكنيسة على منصات التواصل الاجتماعي، ورحب في تواصل كل من يحتاج للمساعدة معه.
منذ الحرب الاهلية فصاعدًا، أصبح خوري يرى خدمته من خلال عدسات المصالحة الكتابية. وابتدأ يعلّم انه من خلال الصليب، كسر الرب الحواجز بين الناس لكي يخلق كنيسة فيها التعددية. على الكنيسة عندها ان تمد يديها لكي تساعد عالم متنوع ان يعيش معًا في سلام.
عن طريق فتح أبواب كنيسته، منح خوري الامكانية للمسلمين ان يسمعوا مباشرة من المسيحيين عن ديانتهم، وبهذا يساعد في تفنيد وصف المسيحيين أنهم يعبدون ثلاثة آلهة او أنهم يقفون مع العلويين ضد السنة. كما واجلس خوري العلويين والسنّة مع بعض، وعندما اختلطوا مع بعض، أصبحوا أصدقاء.
في مجموعات مكونة من 25، عرضت عائلات النازحين مشاكل تتطلب حلولًا فورية. كثيرون مثلًا، هربوا تحت ضغط فاحتاجوا لملابس. الأولاد المضطربون يحتاجون الألعاب. لكن أعضاء الكنيسة يسّروا ايضًا نقاشات حول سوريا. كما وتبين ان أبناء الطوائف المختلفة يحملون احيانًا افكارًا خاطئة الواحد عن الآخر، والتي استغلها المتطرفون السياسيون والدينيون لتضخيم الصراع. الآن فإن أعضاء المجموعات المختلفة يتخيّلون معًا كيف سيبدو المستقبل المشترك.
رغم ذلك، ففي الأسابيع التي تلت المذبحة، استمر اغلب العلويين بالتقوقع في بيوتهم، اذ خافوا من هجومات انتقامية إضافية على مجتمعهم. نظمت الكنيسة احتفال عيد الام لأجل اخراجهم، كي يتذكروا جمال الطبيعة ولكي يشجعوا اولئك الذين يتألمون ان يستمروا في طلب الحياة، بحسب اقوال خوري.
بعد ان صنع الأولاد قلوبًا من ورق باللون الليلكي والأبيض مزيّنة برسائل لأمهاتهم، قاد خوري الهيئة المختلطة دينيًا في نقاش حول الابن الضال. بحسب ملاحظتهم- الابن الأكبر يمثل الذين يرفضون الآخر مهما كلّف الامر. ويذكر خوري كيف قال له أحد الحاضرين: “كنت اتخيل الله كاله عقاب ولكنه مختلف عن ذلك. انه إله الغفران والمحبة الذي ينتظر عودتنا”.
قال خوري أنه في الماضي، لم يعارض العلويون المحلّيون الكنيسة لكن عادة لم يتعاملوا معها. لكن التوجهات تحسنت بشكل معتبر منذ المذبحة. في عيد الشعانين سار أعضاء الكنيسة في المسيرة حاملين السعوف عبر شوارع القرية وانضم لهم بعض الجيران. اما في عيد القيامة فقد عقدت الكنيسة لقاءين في الهواء الطلق للشباب، وهكذا اشترك فيها أكثر من مئتي شاب بالمجمل. هناك ست عائلات جديدة ترتاد الخدمات بشكل منتظم في الكنيسة واضيف 30 ولدًا لمدرسة الاحد.
خوري لا يعرف هل الانفتاح الحالي للسوريين سوف يستمر. انه متشجع من رفع العقوبات وبتعيين امرأة مسيحية كوزيرة للشؤون الاجتماعية . لكن كنيسته ستواصل في الخدمة، كقوله، دون تفرقة بين الطوائف على امل لمستقبل افضل.
“لقد تُرِك السوريين كغنم بلا راعي”، يقول خوري. “اننا نعرّفهم على يسوع الذي لن يترك شعبه ابدًا”.
ستعرّف القصة القادمة زياد وهو علوي نجا من المذبحة.