هذا هو الجزء الثاني لسلسلة من ثلاثة اقسام عن شبكة مراكز العلاقات الدينية في العالم الإسلامي. اضغط هنا لقراءة القسم الأول.
حين كان وجيه ميخائيل ولدًا، هاجم رعاع مسلمون كنيسته المشيخية وقتلوا معلمة مدارس الاحد في مدينة المنيا في مصر العليا. رغم انه يتذكر القليل فقط من الحدث نفسه، لكنه يتذكر انه صلى لأجل المعتدين. وهو ما زال يتأثر كلما ذكر كيف احترم الدروس التي تعلّمها في طفولته والتي علّمته كيف يحب اعدائه.
لم تكن تلك المرة الأخيرة التي اضطر فيها فعل ذلك.
بعد ثلاثة عقود، وإثر الربيع العربي، زعم مؤيدو الرئيس المصري محمد مرسي ان المسيحيين تعاونوا ضده، فاستخدموا هذا ذريعةً لإضرام النار في عشرات الكنائس. في بعض المواقع، حمى مسلمون بيوت العبادة المحلية.
كانت من بينها، الكنيسة التي ارتادها ميخايل في طفولته. في الاحد الذي تلاه، أقام أعضاء الكنيسة الحزانى العبادة في المقاعد المحروقة. كان ذلك ابعد ما وصل اليه احتجاجهم. كما رفض المسيحيون في انحاء البلاد تصعيد الصراع.
رغم ان ميخائيل كان يعيش في القاهرة في ذلك الوقت، لكنه اتشح بحِداده عن بعد، واستذكر دروس مدرسة الاحد. اليوم ميخائيل هو مدير شبكة مراكز العلاقات المسيحية – الإسلامية (الشبكة) وفي جعبته رسالة واضحة: المسلمون ليسوا أعداء المسيحيين.
” طالما شكّل الإسلام تحديًا عمليًا ولاهوتيًا للإيمان المسيحي”، حسب قوله. “لكن يتوجب علينا العمل معًا”.
كتبت المسيحية اليوم سابقًا عن رامون لول وهو راهب فرنسيسكاني من القرن الثالث عشر وهو في الأصل من جزيرة مايوركا العائدة للمسيحية والتابعة لإسبانيا اليوم، والذي دافع عن العلاقات البهيجة بين المسلمين والمسيحيين واليهود. خلال فترة الصليبيين كتب راوية عن ى ثلاث شخصيات حكيمة تمثل كل منها ديانة اخرى حاورت كلٌ منها بكل قناعة عن ايمانها دون ضغينة، وبقي الثلاثة أصدقاء.
على غرار ذلك، الشبكة اليوم هي الثّقافة المُضادة ولكن في اتجاه آخر. في عالم يسعى فيها الحوار بين الأديان لقاسم مشترك نسبي ما بين الديانات الموحدة، فان شركاء الشبكة، والذين يمثلون 18 مركزًا في 13 دولة وخمسة متقدمين إضافيين، يعترفون بالدعوة للتحول لدين آخر كجزء أساسي من كل ديانة. في البرامج الرّسمية، وافق الأعضاء ان يتخلوا عن التبشير المسيحي وبالمقابل عن الدعوة الإسلامية. لكن كأفراد هم احرار ان يشهدوا. شدّد ميخائيل ان كل المشتركين يؤمنون في الحرية الدينية وبانتشاره.
“على المسيحيين التبشير”، هو يقول. “ان من قال ‘لا تقتل‘، قال ايضًا “اذهبوا وتلمذوا”.
واجهت الشبكة مواضيع حساسة عدا التبشير. خلال اجتماع التدشين في العام الماضي، أعرب عدد من الحضور قلقهم إثر اشاعات عن مؤامرة دولية دمج الإسلام والمسيحية في دين واحد. أكد لهم ميخائيل ان الالتزام المتبادل للشبكة هو اكرام كل ايمان كدين حصري بادعاءاته بالحق الإلهي.
وحفاظًا على روح شخصيات لول، وافق الأعضاء ان يتجنبوا الجدالات والتحديات المباشرة حول تفوق كل دين. لكن الشبكة أوضحت ايضًا ان الشبكة ليست للقادة الدينيين الذين يشددون ان كل الطرق تؤدي الى الله.
يكِنُّ ميخائيل احترامًا للول. لكن رؤيته للحوار تنحدر من اسلافه. في بداية سنوات التسعينيات من القرن الماضي درس في الكلية الانجيلية اللاهوتية في القاهرة (ETSC). رغم ان كثير من اساتذته كانوا مصريين، لكنهم استخدموا كتب استوردت بغالبها من الولايات المتحدة. بسبب ذلك افترض ان كل اللاهوت الجيد يأتي من الغرب.
لكن أمريكيًّ أعاد توجيه خريطته اللاهوتية. في عامه الثالث في كلية اللاهوت، قدم مارك سوانسون، وهو اليوم استاذًا للدراسات المسيحية- الإسلامية والعلاقات بين الأديان في كلية اللاهوت اللوثرية في شيكاغو، مساقًا عن التراث العربي المسيحي. وتبدلت وجهة نظر ميخائيل بشكل راديكالي.
مع مرور الوقت، اكتشف “جمال” الحوار في القرن التاسع بين خليفة عباسي ومطران ملكي. وأعجب بالدفاع “العميق والصعب” عن الثالوث والذي قدمه لاهوتي يعقوبي من القرن التاسع من المنطقة التي هي اليوم العراق. كما لفتت نظره الاعمال الدفاعية لمطران قبطي في مصر والتي ساهمت في نهضة محلية في الكنيسة الارثوذكسية.
عاش المسيحيون العرب تحت الحكم الإسلامي للـ 1400 ا سنة الأخيرة لكن حقائق واقع وضعهم قد تغيّر بشكل واسع. فترات من الاضطهاد القاسي تخللتها فترات من التعاون، ابتداء من الفتوحات الإسلامية وفرض مكانة الدرجة الثانية للذمي لأولئك المدعوين في القرآن “اهل الكتاب”، وتحديدًا المسيحيين واليهود.
لكن ميخائيل يسلط الضوء حول بناء المسلمين والمسيحيين معًا للحضارة العباسية. اشغل حنين ابن اسحق، وهو مسيحي من كنيسة الشرق الذي هو اليوم العراق، موقع المترجم الرئيسي المرتبط مع بيت الحكمة ممن ترجموا الفلسفة اليونانية الى العربية. ويشير ميخائيل، أنّه ولمدة 300 عام، خدمت عائلة بختيشوع المسيحية السريانية كأطباء للخلفاء واسسوا كلية الطب الرائدة في فارس.
للأسف، تعامل المسلمين مع المسيحيين اعتمدت على نزوات القائد، يقول ميخائيل. فخلال جيل واحد، إبان العصر الذهبي العباسي، انقلب الحال وأفسِح الطريق لهدم الكنائس وفرض قواعد لباس خاصة للمسيحيين واليهود.
وسلّط المؤرخ فيليب جينكيز الضوء على كيفيّة تزامن اضطهاد المسيحيين مع الضغط الخارجي على الامبراطوريات الإسلامية. لكن ذلك لم يتميز دائمًا بالعدسات الطائفية يقول ميخائيل. فقد سمّى الادب العربي الحملات الصليبية الأوروبية آنذاك “حروب الفرنجة” مؤكّدين بذلك على الابعاد السياسية دون الدينية.
على الرف في مكتب ميخائيل تجد 36 مجلدًا باليًا للغاية بالوان ناعمة لسلسلة من اكثر من أربعين مجلد لمخطوطات عربية قديمة للقاءات مسيحية- إسلامية. على عكس الحوار اللاتيني الفلسفي في القرن الثاني عشر، لبيتر ابيلارد، بين يهودي ومسيحي او حتى مناظرات لول الظريفة لكن من صنع أجنبي، تعكس مجموعة السّجلات هذه والتي نُشِرت في لبنان، كيف تعامل المؤمنين العرب المحليين مع الايمان الإسلامي الصاعد.
تشمل هذه المخطوطات المقالات القديمة التي احتفل بها ميخائيل أعلاه، لكن اغلبها ليس متوفرًا باللغة الإنجليزية. وهو يأمل ان تفلح الشّبكة في تأمين تمويلٍ لترجمتها في أحد الأيام. ان التوجه المحترِم الذي نشهده في تاريخ المسيحية العربية هو ليس بمثابة رد على الميول الجدلية في الغرب فحَسْب، حسب قوله، انما هو ايضًا تذكيرٌ للمسلمين في العالم ككل ان كنيسة يسوع كان اولًا- وما زالت- ايمانًا شرقيًا.
ولقد أطلقت الشبكة برنامج دبلوما لسنة واحدة في العلاقات الإسلامية- المسيحية والتي تهدف ان تطورها الى برنامج لقب ثاني.
مشاريع تطوير أخرى تشتمل قاموسًا للعلاقات الإسلامية- المسيحية ومنتدى سنويًا، بالتناوب. وقد عرضت الشبكة في ويبينار أخير لها دفاعًا اسلاميًا عن الحرية الدينية الذي سوف تقوم المسيحية اليوم بتقديم تقرير عنه في المقال القادم في هذه السلسلة. على المسيحيين ان يتعلموا الإسلام من المسلمين حسبما يقول ميخائيل، كما يحتاج المسلمين ان يتعلموا عن ماهية المسيحية من المسيحيين. يمكن لهذا ان يحدث فقط من خلال الحوار.
“يتوجب الا تشكل المرارة مستقبلنا”، يقول ميخائيل، “وانما الرجاء والمحبة فقط”.