حين كان هادي ماعو في الخامسة من عمره، انهار بيته المكون من طوب اللُّبن عليه بعد ان فجر مسلمون متطرفون سيارات مفخخة في قريته العراقية الشمالية. بعد سبعة أعوام وفي عام 2014 اجبر جهاديّو داعش طائفته في إقليم سنجار على الهروب الى الجبال. اليوم هو يبلغ من العمر 22 عامًا وهو يطلب اللجوء في هولندا ويرسل ربع مدخوله الزهيد، مقابل عمله كعامل يعبئ رفوف في بقالة، الى عائلته التي ما زالت تأوي في مخيم تابع الأمم المتحدة لليزيدين النازحين داخليًا.
“سنجار غير صالحة للسكن”، قال هادي.” أخشى ان ينسانا الناس”.
ان تقليصات “الوكالة الامريكية للإنماء الدولي” جعلت الامور أسوأ، في ايقافها إعادة اعمار القرى اليزيدية وإرهاقها المراكز الطبية. تسعى هيئة انجيلية أن تسد الثغر بينما يحاول جيل جديد من اليزيدين، الذين يعيشون في الخارج، العمل على إيجاد طرق للمساعدة. في هذه السلسلة من المقالات الثلاث، سوف نغطي تعقيدات المساعدات المسيحية في سنجار ونشرح اساسيات دين اليزيدين التي يؤمن بها ماعو وشعبه.
ماعو هو الأصغر بين اربعة اخوة وثلاث اخوات. كل اخوته يعيشون حاليًا في مخيم ساردشتي في وادي نينوى، الذي يبعد12 ميلًا عن الحدود السورية. المال الذي يرسله ماعو لاهله يساهم في بناء بيت من الحجر لامه وابيه المتقدمين بالسن. فهُما يسكنان حاليًا مع عائلة عمه في خيمة اعتيادية من القماش التي تزودها الأمم المتحدة.
في القمة الدولية للحرية الدينية الذي عُقد في شباط، أشاد نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس بعمل حكومة ترامب الأولى حين احضروا المساعدات لليزيدين والمسيحيين “الذين يواجهون إرهاب الإبادة الجماعية الداعشي”. لكن الامر التنفيذي الذي اصدره الرئيس دونالد ترامب في تجميد التمويل الأجنبي وبالتالي تفكيك الوكالة الامريكية للإنماء الدولي، كان له الأثر المأساوي على المخيمات التي يعيش فيها اليزيدين.
المخيم مليء بالخيام الممزقة التي تتسرب منها مياه الأمطار، مرافق المراحيض غير الصحية، وخطر اشتعال النار من كوابل كهربائية مكشوفة للشرار، هذا بحسب مصادر من ارض الموقع والتي تحدثت معه المسيحية اليوم. على أثر التقليصات توقّف بناء المدارس والمراكز الجماهيرية ووحدات تنقية المياه. ومحوّل لم يستعمل بعد، الذي وصل قبل الأمر في إيقاف العمل، تمّ وضعه في المخزن.
ماعو هو من قرية تل عيزر، المعروفة ايضًا بالقحطانية، حيث رَعَت الوكالة الامريكية للإنماء الدولي فيها احد مراكز الشبيبة الناشئة الخمسة. في اعقاب هجومات داعش، أسست الوكالة منبرًا نسائيًا على الميديا ورَعَت معرضًا ل-300 تحفة ثقافية لكي تعرض الإرث اليزيدي والمسلم والمسيحي المُشتركين في المنطقة. كما ساهمت الوكالة الامريكية للإنماء الدولي في بناء مقبرة في قرية كوخو بالإضافة لبيوت لعائلات ضحايا داعش المئة والثلاثين. وتمكن على الأقل 150 ألف انسان مغادرة المخيمات والعودة لبيوتهم.
منذ 2003سنة، استلمت العراق 9.3 مليار دولار كمساعدات من الوكالة الامريكية للإنماء الدولي، مما ساهم في المحافظة على 15 ألف محل تجاري صغير وقدّم التدريب المهني ل-75 ألف عراقي. في سنجار تمكن 30 ألف يزيدي من الحصول على الخدمات الضرورية، ويشمل ذلك عيادات طبية في أكثر من 12 مخيم يزيدي. وقال مصدر، تحدث الينا بصيغة غير معلنة، انهم يعملون اليوم في رُبع القدرة اللازمة. ان المساهمات الحكومية العراقية تضمن وجود عدد محدود من الطاقم، ولكن حالات المرضى تستهلك المؤن الموجودة سابقًا دون استبدال كاف لها. تشجع السّلطات اليزيدين على السفر لمنشآت الحكومة، لكن يتردد الكثيرون من العودة الى المناطق الإسلامية بسبب ذكرى ما اقترفته هناك داعش بحقهم.
“لم تلتئم جراحنا بعد”، قال ماعو. “نساءنا لم يعُدنَ، وعظام شهدائنا ما زالت مبعثرة على طول ارض وطننا قديم العهد”.
اليزيديون هم شعب قديم تعود جذور معتقداتهم الى بلاد ما بين الرافدين والى الديانة الزرادشتية. ان فيه عناصر مشابهة للمسيحية وللإسلام لكن داعش تبنت فتاوى من القرون الوسطى، تعلن ان هذه الفئة الدينية تستوجب القتل.
حين وَسَّعت داعش خلافتها المزعومة في 2014، ساق المتطرفون عشرات الآلاف من اليزيدين الى اللجوء في الجبال. يصف ماعو العيش في مغارة لأكثر من أسبوع في درجة حرارة 120 فارنهايت/ 48.9 سيلزيوس مع قليل من الطعام او الماء. بشجاعة ملفتة قام والده بالعودة الى قرية مجاورة لكي يحصل على مؤن. ناجي آخر، حسين سالم، قال للمسيحية اليوم انه يتذكر الرصاص يتطاير فوق رأسه ونقص الادوية حين مرضت والدته.
فقط بفضل، الانزالات الجوية والدعم العسكري من قِبل الائتلاف بقيادة الولايات المتحدة، تمكنوا من النجاة.
وحاولت عائلة ماعو العودة الى تل عيزر في 2021 ولكنهم لم يشعروا بالأمان. قتلت داعش أكثر من 1200 يزيدي وخطفت الأولاد لكي ترسلهم للخدمة كجنود، واستعبدت اكثر من 6 آلاف امرأة في زواج قسري او زواج متعة. بحسب احدى الاحصائيات، هناك ما يقرب من 2500 عضو من الطائفة ما زالوا مفقودين.
قالت بعض المصادر انه منذ هزيمة داعش فان جمعيات دولية كبيرة مثل “أطباء بدون حدود” و”ورلد فيجن” و”ميدار” قدمت مساعدات واسعة للمجتمع اليزيدي. لكن حين ازدادت الازمات العالمية في اوكرانيا وغيرها، فان الهيئات التي قدمت المساعدات توقفت عن المساعدة. بقيت في المخيمات هيئات اصغر وكثير منها انجيلي.
اشتي باهرو هو مؤمن عراقية من خلفية كنسية كلدانية كاثوليكية يدير “زلال لايف” من داهوك في اقليم كردستان ويخدم ثلاث مخيمات يزيدية وعشرات القرى. المستفيدون من توزيع الطعام، التدريب المهني والخدمات الطبية يشمل أيضا مسيحي المنطقة واللاجئين السوريين.
وتستقبل عيادتان متنقلتان بشكل منتظم 800 شخص شهريًا- لكن الطلب قد تصاعد بشكل هائل منذ تقليصات الوكالة الامريكية للإنماء الدولي. في الشهر الماضي في “اقري”، على مسافة، حوالي خمسين ميلًا شرق مقر القيادة، أبعدت الشرطة 300 شخص كانوا يقرعون بيأس على الباب مطالبين بخدمات مختلفة. في السابق، قلّما عالجوا أكثر من 20 شخصًا في اليوم. الآن هم يستقبلون 70 والطلب الاعتيادي قد تضاعف.
قال باهرو:” يسوع يمنحني الصبر”.
ويقدم ماعو كلمات لطيفة عن الخدمات المسيحية التي تخدم في المنطقة. من خلال عدة جمعيات، استفاد شخصيًا في تعلّم اللغة الإنجليزية، المهارات الرقمية وتدريب على القيادة. الارشاد المستمر ساعده في ايجاد عمل علماني خارج المخيم، وهو يطلب باستمرار نصيحتهم والصلاة.
واضطرته حاجة طبية للقيام برحلة مروّعة الى أوروبا. في 2016 عانى أخيه من نوبة قلبية ولم يجد علاجًا محليًا. بسبب احباطه من الخدمات الطبية المحدودة في موقعهم المنعزل، قام ماعو وابن أخيه البالغ من العمر تسعة أعوام، في سنة 2021، بالسفر من بغداد الى بيلاروس للانضمام هناك لقافلة من المهاجرين. كثير منهم كانوا يبحثون عن حياة أفضل في أوروبا. كان هدف ماعو هو لمّ شمل العائلة من خلال اللجوء حتّى يحصل أخيه للعلاج الذي يحتاجه.
عبرا الحدود استنادًا على توصيات حملاها من مهربين، وقضيا اوقاتًا قاسية ابتداء من طقس مجمد في غابة، مرورًا في فرارهما من الشرطة وانتهاء بإيجاد طريقة للتعافي من التّعرُّض للغاز المسيّل للدموع. بعد شهرين قضياها في الدخول والخروج من الاعتقال، انتهت الملحمة كثيرة الجنسيات بشكل قانوني في هولندا، حيث استلما إقامة مؤقتة. وبالنتيجة تمكن اخيه وزوجة أخيه واولادهم الثلاثة الآخرين بالانضمام لهما في هولندا واخذت صحة أخيه بالتحسن بشكل مطرد.
الحياة صعبة في المهجر حسبما قال ماعو. الديانة اليزيدية تضع اهمية كبيرة على المزارات المحلية – ولا توجد هناك مباني يمكن مقارنتها في تلك، خارج الوطن. انها تطلب من اعضائها ان يتزوجوا من داخل دينهم. ولكي يمنعوا الاختلاط أبناء طائفتهم مع من هم من خارجها، وحتى وقت قريب، لم يشجعوا إعطاء أبنائهم التعليم الأساسي.
يرى ماعو املًا ضئيلًا لليزيدين في العراق. المسلمون يتهمونهم في ” عبادة الشيطان” ويدعون ان ملاك الطاووس خاصتهم يشبه لوسيفر. ويقول انهم يعانون من تمييز ديني بشكل منتظم. وما دام شعبه يبقى معتمدًا على المساعدة الخارجية، فانهم سيبقون قابعين في قرى مثل سنجار.
هو ينتقد تقليصات “الوكالة الامريكية للإنماء” ولكنه يحلُم بمستقبل لا تكون فيه حاجة للمساعدات الامريكية. هو يدرس في الجامعة بينما يتطوع في مساعدة لاجئين آخرين. في كانون اول المنصرم قصّ حكايته في تجمع لسبعين شخص من طلاب العمل الاجتماعي الذي اقامته هيئة هولندية لعمل اللاجئين. قليلون منهم فقط سمعوا قبلًا بشعبه، مع أنه بعدها، انضم بعضهم الى دعوته للمساعدة. لكن جيل جديد من اليزيدين – المشتتين في المهجر- يمكنهم اكتساب المهارات الضرورية لزيادة الوعي ورفع مستوى طائفتهم في العراق، حسبما قال.
ماعو يرغب في تعليم شعبه على الذكاء الاصطناعي. قبل عشرة أعوام لم يكن يعرف البريد الالكتروني. انه يرغب في فتح مركز لتعليم المهارات الرقمية التي اكتسبها هو، وان يُمَكِّن اليزيدين ان يطوروا اقتصادهم. في الوقت ذاته، تعلّم ان يكون مِحَصَّنًا وزادت ثقته بنفسه، ويرى مستقبلًا فيه هدفًا لنفسه ولشعبه.
“افتقد عائلتي”، قال. “لكن يمكنني ان اعمل لصالحهم هنا اكثر مما لو كنت في سنجار”