جسد فرنسيس سمعان في الأردن، لكن قلبه في السودان.
يجلس طالب السنة الثالثة للاهوت في احدى المناطق المشتركة الهادئة بجانب قاعة الصلاة في الهيئة الإنجيلية الثقافية، مؤسسة الدراسات اللاهوتية (JETS) في عمان، عاصمة الدولة. رغم انه يسكن حاليًا ويعمل في بنايات حرم الجامعة المهيب المصنوعة من الحجر، ويستبدل موظفًا مصريًا مسافرًا – فان عقل سمعان مشتت ما بين دراسته وبين موطنه، حيث اشتعلت حرب أهلية فيه منذ نيسان 2023.
هناء كالو، زوجة سمعان، وأولاده التوأم في جيل 6 سنوات يعيشون بأمان في القاهرة- التي وصلوها بعد وقت قصير من نشوب الحرب وذلك بعد ان تحملوا مشقّات سفر فظيع لسبعة أيام بالباص من الخرطوم في السودان. لكن امه واخوته واولادهم ما زالوا في عاصمة السودان المُدمرة. لقد نهبت قوات الدعم السريع (RSF) وهي مجموعة مسلحة تحارب القوات المسلحة المقادة من الحكومة (ٍِSAF) على الهيمنة في تلك الدولة الافريقية. لقد نهبت بيته وبضمن ذلك حتى فرشات النوم والتلفونات الخليوية.
عندنا يتواصل أقارب سمعان معه، فان الامر يتطلب ان يستعيروا تلفونًا من احدهم. مثل كثير في السودان، حاليًا يأكلون وجبة واحدة فقط في اليوم، وعادة تكون من الأرز والعدس.
” كل شخص ينتظر الوقت الذي سيموت فيه”، يقول سمعان عن المسيحيين السودانيين، وهي اقلية مضطهدة نسبتها 5% من سكان البلاد وعددهم خمسين مليونًا.” هذا هو الواقع الآن. ليس عند أحد املًا ان تتغيّر الأمور غدًا”.
وفي الذكرى الثانية للصراع السوداني، لخص انتونيو غوتيريس نتائجها الكارثية: 12 مليون نازح وبضمنهم 3.8 مليون تدفقوا الى الدول المجاورة مثل اثيوبيا وتشاد ومصر. لقد أعلن عن المجاعة في 5 مناطق على الأقل، و25 مليون انسان يواجهون جوع شديد. وصل عدد القتلى التقديري الى 150 الفًا على الأقل.
ورغم ان الحرب في غزة وفي اكرانيا تستجلب اهتمامًا اعلاميًا أكبر، لكن هيئات المساعدات تعتبر ان السودان تعاني أكبر الازمات الإنسانية العالمية. كثير من السودانيين هم من مزارعي الكفاف. لكن العنف والنزوح قد اثرا بشكل جذري على الزراعة، ووصل الامر بوصول نصف السكان الى عدم امان غذائي. في عام 2023 قدمت وكالة السودان لتقييم امدادات المحصول والطعام السنوية تقريرًا مفاده انخفاضًا بنسبة 46% في انتاج الحبوب المحلية مثل الذرة الرفيعة والملة، مقارنة بعام 2022 وربطت الانخفاض بالصراع.
لقد تفاقمت الازمة نتيجة التقليصات التي قامت بها مؤخرا حكومة ترامب. في عام 2024 كانت الولايات المتحدة المتبرع الأكبر للحاجات الإنسانية للسودان، وقدمت التمويل لحوالي نصف المساعدات الذي تحتاجها الدولة. لكن منذ تجميد مساعدات الوكالة الامريكية للتنمية الدولية ((USAID في نهاية كانون ثاني، فان هيئة مستقلة لتحليل البيانات وتركز على القطاع الانساني تسمى ACAPS ، تقول ان التقليصات قد اثرت على شريحة واسعة من جمعيات الإغاثة.
لقد اضطرت الجمعيات المتلقية من هيئات الأمم المتحدة والهيئات غير الربحية الوطنية والدولية إضافة للمجموعات المجتمعية من المستوى الشعبي، على فصل الموظفين وتقليل ساعات العمل وتقليص البرامج، حسب ما تقوله ACAPS. وفي الخرطوم وحدها أغلقت ابوابها ما بين 80 الى 90 بالمائة من مطابخ الاكل للطوارئ.
لقد تضرر المسيحيون بشكل خاص من الحرب الاهلية. هذا العام قامت جمعية اوبن دورز بتدريج السودان كخامس اصعب مكان في العالم، لكي تكون فيه مسيحيًا. وأشارت لائحة الجمعية لبرج المراقبة العالمي ان ” مجموعات متطرفة عنيفة استغلت أجواء الامن المتدهورة لكي تستهدف المسيحيين بشكل منهجي”.
جاء بطرس الى عمان من الخرطوم في 2018 لكي يحصل على لقب ثاني في الدراسات الكتابية في JETS. وبقي على اتصال مع اقربائه في السودان ومع خطيبته سارة التي لم يراها منذ سبع سنوات (وافقت المسيحية اليوم على استخدام أسماء مستعارة حيث ان بطرس غير حائز على إقامة قانونية في الأردن). لقد خطب الزوجان الذين تعرفا على بعض قبل عشر سنوات، في عام 2020 بعد ان التقى ممثلون من عائلته مع ممثلين من عائلتها وطلبوا يدها.
عملت سارة في شركة للأدوية في الخرطوم قبل ان تجبر الحرب عائلتها ان تهرب من الولاية الشرقية كاسال في السودان. احيانًا تجلس خارج بيت عائلتها المصنوع من طوب اللبن لكي تلتقط إشارة انترنت وتكلم بطرس. تحدثت سارة للمسيحية اليوم من تلك البقعة بينما مرّت السيارات والدراجات النارية من امامها على الشارع الترابي واخذ الأولاد يصرخون ويلعبون حولها واخذت حمامة تهدل قرب رأسها.
تحيط المزارع بقرية عائلة سارة، لكنهم في بعض الأيام يأكلون فقط وجبة واحدة وفي أيام أخرى لا يأكلون البتة. هي تقول ان وضعهم يزداد سوءًا يومًا بعد يوم. رغم ذلك تحاول سارة ان تجد تشجيعًا لها من قصة أيوب الذي فقد كل ممتلكاته، أولاده وصحته ولكن لم يفقد ايمانه.
“اننا بشر، فمن هنا… نمر بلحظات نكون فيها ضعفاء”، تقول سارة. “لكننا نعود ونقول، ‘ الرب سيقوينا ويجعلنا ثابتون في ايماننا’ على الرغم من التحديات والصعوبات فإننا سنتغلب”.
في مطلع آيارـ ضربت مجموعة من مسيّرات- التي تم تفعيلها كما يبدو من قوات الدعم السريع- مدينة بورت سودان وهي مدينة ساحلية في المقاطعة شمال بيت سارة في كاسالا. اعتبرت كاسالا عاصمة للدولة وقت الحرب وشملت مجمعًا للمساعدات الدولية. حتى الآن، لم يصبها سوء من القتال، مما جعلها مكان ملجأ هادئ نسبيًا لمئات آلاف المدنيين النازحين.
بعد الضربات، تصاعدت غيوم من الدخان السام من مستودع الوقود المُستهدَف. وضربت المسيّرات محوّل للطاقة وفندق، بالإضافة لمطار السودان الدولي الوحيد العامل الآن.
حلمت سارة ان تطير من مطار بورت سودان الى جوبا، في جنوب السودان. هناك ستتمكن من الحصول على جواز سفر لجنوب السودان، مما سيمكنها ان تسافر، وان يلتئم شملها مع بطرس. لكن ضربات المسيّرات على المطار كشفت هشاشة خططتها، حتى لو كان معها النقود للدفع مقابل تذكرة طائرة الى جوبا- وسعرها 600 دولار- هل سيكون المطار مفتوحًا حين تكون مستعدة للرحيل؟ حين تصل الى جوبا- اين ستجد المال لتكلفة جواز سفر وايضًا للسفر نفسه؟
رغم ان بطرس وسارة واجها معطّلات جمّة امام لم شملهم، لكن بطرس استمر في وضع ثقته بالله – لأجل زواجهم في المستقبل ولأجل نتيجة للصراع السوداني اللانهائي . ولد بطرس في خضم الحرب في جبال النوبة في جنوب كردفان. لم يرَ امه منذ 2010. في بداية الحرب الحالية، اجتمع مع اخوة مسيحيين له في عمان في غرفة باردة رطبة في حداد على موت أخيه بسبب قصف عشوائي.
“الشيطان يرى بطريقة محدودة، لكن الله يرى كل شيء”، يقول بطرس. “الشيطان يقيم الحروب ويقتل، ولكن بذات الوقت، الله يسمح للإنسان ان يرى ويسال، ‘من هو ذلك الانسان الذي يقتل؟’ انه يأخذ بالتقرب من المسيح، لكي يجد حياة مختلفة. انه يستطيع ان يسامح الآخرين”.
وهناك الكثير مما يتطلب الغفران. في نيسان (ابريل) من 2024 أبلغت اللجنة الامريكية للحرية الدينية الدولية عن أكثر من 150 كنيسة قد تضررت بعد سنة من الحرب. حتى ذلك الوقت، قصفت القوات الحكومية (SAF) كنيسة الازبا لمعمدانية في الخرطوم شمال في 20 من ديسمبر (كانون اول) وقتلت على الأقل 11 شخص. وهاجمت قوات الدعم السريع RSF كنيسة في ولاية جزيرة خلال الصلاة في ديسمبر (كانون اول) وتركت وراءها 14 جريحًا. في أكتوبر (تشرين اول) اعتقلت القوات الحكومية (SAF) 26 رجلًا مسيحيًا هربوا من عائلاتهم، واتهموهم بالشراكة مع قوات الدعم السريع (RSF).
في 2013، وبينما عمل سمعان كمحاسب للكنيسة الانجيلية المشيخية للسودان، اعتقلته قوات الامن وسجنته منفردًا في غرفة دون شبابيك لمدة 3 اشهر. وكانوا يضربونه ويحققون معه كل صباح. وقالوا لسمعان انه من الممكن ان يعمل معهم كجاسوس، ليزوّدهم بمعلومات عن الكنائس المحلية. إذا رفض، فانه يعدونه بانهم لن يهدأ له بال.
رفض سمعان. وبعد إطلاق سراحه من السجن، اجبر ان يقدم بلاغًا كل صباح في محطة الشرطة وان يجلس دون عمل حتى المساء. استمر ذلك لمدة ستة أشهر، وفي تلك الاثناء خسر عمله. بعد ان تزوج سمعان من كالو في 2015، استمرت الشرطة بملاحقته ومراقبة بيته ارسال نصية مهددة له.
في النهاية، في 2018، ظهر اسم سمعان في الجريدة وقد ذكرت انه مطلوب من الحكومة بتهمة “التبشير بإنجيل المسيح”. هرّبه أصدقائه الى المطار ومن هناك هرب الى الأردن. كانت كالو حبلى وفي لطنها توأم في شهرها السادس، واستيقظت لتجد ان زوجها غير موجود.
“احيانًا اسأل ‘ اين انت يا الله؟”، قال سمعان.” كل هذه الأشياء- ستة، سبعة سنين، لم ار فيها اولادي وزوجتي تعبة وهم يسألوني،’ اين انت يا بابا؟’ حتى الآن، لا نعرف متى سيكون بإمكاننا لقاء الواحد منا مع الآخر”.
نظرًا لشغلة- دراسته في الكلية، يتقاضى سمعان مبلغًا صغيرًا شهريًا. انه يرسل جزء منه كل شهر للقاهرة ليساعد زوجته لكي تدفع الإيجار وللطعام. من المفروض ان يكون أولاده الآن في الصف الأول، ولكن لم يتمكنوا من دفع الأقساط التعليمية. يؤمن سمعان ان الله دعاه لكي يدرس، ولكنه يتساءل احيانًا اذا كان يتوجب عليه ان يتوقف عن الدراسة، وان يستلم عملًا بوظيفة كاملة حتى يستطيع ان يسدّ احتياجات عائلته.
ان وضعه العقلي يعكس وضع كثير من السودانيين المسيحيين- في داخل وخارج السودان على حد سواء. ” اتعرف كيف تصل احيانًا الى نقطة تكون قد فقدت الامل فيها، ولا تعرف كيف تصلي؟” يقول سمعان. “في داخلك انت مقهور، مكسور، حزين- تحتاج الى من يساعدك. هذا ما نحتاج اليه الآن – أناس تعيننا في الصلاة، روحيًا، عاطفيًا واقتصاديًا. ناس تشجعنا”.