هذه سلسلة من ثلاث مقالات عن الطائفة العلوية في سوريا والمذبحة التي حصلت في آذار لأبنائها. لقراءة القصة السابقة عن راعي الكنيسة الذي يخدم بينهم وعن سياق المذبحة، اضغط هنا.
في السّادس من آذار قلب زياد بعصبية بين وسائل التواصل الاجتماعية حين كان مُختبئً في غرفة دون شبابيك في شقته. سمع أصوات طلقات، وخلال فترة الحرب الاهلية الطويلة في سوريا أصبح بإمكانه التّمييّز بين أنواع الأسلحة المستخدمة. لقد كانت هذه أسلحة رشاشة من الطراز العسكري. مجموعات من المقنعين بالقناع الصوفي في شاحنات “بيك اب” صرخوا “الله أكبر” بينما هاجموا مكتب حكومي يبعد ميلًا واحدًا عن بيته في مدينة اللاذقية الساحلية.
عرف المربي ابن ال-46 عامًا وزوجته زينب ان المسلحين كانوا يبحثون عن علويين. ينتمي الزوجان، زياد وزينب، لتلك الطائفة الإسلامية غير التّقليديّة التي كرهها كثير من المسلمين السنّة لأجل ارتباطها مع نظام الأسد المخلوع. كما وتمادى البعض الآخر اكثر واعتبروا عقيدة اولئك كبدعة. وأعلنت فتاوى من القرون الوسطى ومن الفترة العثمانية ان العلويين يستحقون الموت وتناقلت فيديوهات بين الناس تنادي بالجهاد ضد مجتمعهم العلوي.
لم يترك زياد بيته للأيام الثلاثة التالية.
حين هدأت الأمور، حصدت مذبحة آذار حياة على الأقل 1700 علوي. زياد، الموجود حاليًا في لبنان، والذي لن نكشف عن هويّته حفاظًا على امان اقاربه في سوريا، يصف الإرهاب الذي عانت منه الطائفة.
” يا رب أنقذنا”، صلّى بهدوء. “لم نفعل شيئًا خاطئًا”.
قبل ستة أشهر، حين سقط نظام بشار الأسد، تأمل زياد الانتقال الى الديمقراطية وإصلاح واسع النطاق. استولى حافظ الأسد، والد بشار، على السلطة في انقلاب عام 1970 واختار تعيين العلويين في وظائف عسكرية وحكومية بشكل لا يتناسب مع امكانياتهم. قليلون فقط استفادوا من ذلك، قال زياد إذ بقيت الاغلبيّة في فقر نسبيًا- حالهم حال الناس في المناطق الريفية الأخرى. لم يسمح النظام أية آراء معارضة ونَمَّى عدم الأمان عند الأقليات الدينية السكانية لتكبح أي تهديد لسلطتها.
وفي الوقت الذي يشكل العليون اغلبية في السّهول الساحلية والجبال في غرب سوريا، لكن هذه المجموعة الاثنية- دينية تشكِّل 10-13 بالمائة من المجموع الكلي للسكان. يعيش المسلمون السنّة والروم الأرثوذكس معًا في سلام. لكن حين اقتحم المسلحون البيوت ناهبين التلفونات الخليوية والأموال النقدية، قتلوا الرجال العلويين واحيانًا عائلات كاملة.
كان زياد قد اغلق البوابة الحديدية التي توصل الى بنايتهم. لربما أنقذ ذلك حياتهم.
جلس هو وزينب في الظلام خوفًا من إظهار أية علامات لوجود حياة في شقتهم. وبينما أخذ يتصفح صفاحات حسابه الشخصي على الفيسبوك، عرف عن المذبحة.
اصابت رصاصة طائشة زينة جديد وهي طالبة سابقة كانت في ذلك الوقت في عامها الثالث من دراسة الطب، بينما كانت تحتمي في شقتها. لم يكن جرحها قاتلًا، لكنها خسرت الكثير من الدماء بعدما حبس المسلحون عائلتها داخل البهو ورفضوا السماح لهم في الذهاب الى المستشفى القريب الذي يبعد 900 قدم.
اجبر المسلحون ياسر صبُح، وهو رئيس المركز الثقافي في اللاذقية الخروج من شقته تحت تهديد السلاح. ارتاد زياد كثير من المحاضرات والحفلات الموسيقية التي أقامتها النخبة العلوية. لكن بدل ان يرى دعوة لبرنامج قادم، علم زياد ان المسلحون قد رموا الجسد الدّامي لصاحبه، خارج بيت صُبُح.
مع نهاية اليوم الثالث، عاد الهدوء النسبي للمدينة. لكن استمرت أعمال العنف في باقي الأماكن، كان زياد يترك شقته فقط لشراء الطعام في البقالة المحلية قبيل اسراعه عائدًا لبيته. ملأ وقته في قراءة تاريخ بلاد ما بين النهرين راثيًا الوضع الحالي لسوريا والعراق. كان أيضًا يتصل في أصدقائه واقربائه للتأكُّد انهم جميعًا على ما يرام.
بالمجمل، قتل المسلحون 11 من أقارب زياد في القرية التي تعيش بها عائلته. بكت زوجته موت ثلاثة أقارب لها. قالت زينب أن عمها نجا من عملية خطف، بعدما اخرجه المعتدون تحت تهديد السلاح ودفعوه الى مركبتهم المستعدة للفرار. لكن كان إطار السّيارة مثقوبًا فلم تستطع ان تحمل وزن ضحيتها الضخم الجثة التي كانت ترتجّ وهي تنحدر في الطريق. دفعه الخاطفون خارجًا وذهبوا للبحث عن هدف أسهل. لقد كان محظوظًا، قال زياد.
وفي الوقت الذي يتزوج عادة العلويين من داخل طائفتهم فان ابن عم والد زياد تزوج مسلمة سنيّة التي آل بها الامر ان تنقذ حياة افراد عائلتها. حين اقتحم المسلحون باب بيتهم، وصوّبوا فوهة بندقيتهم الى رأس الابن الأكبر للوالدَين وطالبوا بكل الذهب الموجود في البيت.
“انه سنيّ”، توسلت امه العلوية، نظرًا ان الإسلام يحدد الهوية الدينية حسب الاب والذي لم يتواجد هناك في ذلك الوقت. بحثت الام على بطاقة هويته بينما تجمدت كنتها العلوية في مكانها وصرخت ابنتهم البالغة من العمر ثلاثة أعوام “اتركه!”
وإذ اقتنع المسلحون انه يشاركهم الهوية السنيّه كما تشير بطاقة الهوية قاموا في نقلهم جميعًا الى منطقة آمنة على بعد ميلين في اللاذقية- مقابل ذهب بقيمة 3000$.عادت العائلة بعد بضعة أيام لتكتشف ان ناهبين اخذوا اثاثهم واجهزتهم الكهربائية واغراض ثمينة.
ندد الرئيس السوري احمد الشرع القتل في العاشر من آذار وتعهد ان يقدم المجرمين للمحاكمة. لكن المسلحين استمروا في التجول في المنطقة ليلًا، قال زياد، وبما أن وجوههم مغطاة، لم يعرف أحد هويتهم الحقيقية. استعاد الزوجان في النهاية الثقة لكي يتجولوا في مدينتهم، ولكنهم حرصوا على الرجوع قبل هبوط الليل.
اكثر من 400 ألف لاجئ سوري، اغلبهم من العلويين، هربوا الى لبنان في الشهور الثلاثة الأخيرة، وكثيرين منهم عبروا بشكل غير قانوني الحدود سهلة الاختراق. أصرَّ زياد وزوجته ان يدخلوا بعدما يختموا جوازاتهم. لم يخبر أحدًا ولا حتى والديه عن خططهما للرحيل. كل من يسافر يملك أموالًا، أضاف زياد، وسيصبح هدفًا. لكن المكاتب الحكومية كانت بطيئة في العودة لفتح أبوابها وتصادق على مستنداته.
حتى في لبنان، بقي الخوف مُتأصِّلًا. عندما عرفت زينب ان هذه المقابلة في بيتهم الآمن في بيروت ستتم بعد الساعة السابعة مساء، تراجعت بشكل تلقائي اذ ظنت انه لن يكون آمنًا ان آتي اليها بعد حلول الظلام.
نجح عدد من أصدقاء زياد أخيرًا في الوصول الى رواندا وعمّا قريب سوف يسافر هو وزينب باتجاه جنوب شرق آسيا. السوريون غير مرحب بهم في أماكن كثيرة، حسب قوله، وهو يظن الأمر يتطلّب عقْد من الزمان قبيل ان يكون الوضع آمنًا ومستقرًا للعودة لبلده. ان الدستور الانتقالي يستمر في تكريس حكم القوي ودور الإسلام، قال شارحًا.. كما ان الشرع صرّح انه سيستغرق خمسة سنوات للاستعداد للانتخابات الرئاسية.
” إنا لا استحي في إرثي العلوي”، يقول زياد. “لكني اريد ان اسافر لأي مكان لا اسمع فيه عبارة ‘ الله أكبر’ “.
في المقال التالي سوف نسبر غور المعتقدات الدينية لطائفة زياد. للمقال السابق عن كيفية قيام كنيسة بالخدمة بين النازحين العلويين، اضغط هنا.