يواجه السبعمائة مسيحي المتبقين اسعارًا فاحشة، شقق تم قصفها وفقدان جاليتهم لصالح العنف والهجرة.
خسر فادي شقته. ولن يسمح بأن يحدث ذات الامر مع كنيسته.
نظرًا للواقع الاجتماعي- سياسي المعقّد الواقع في وقت الحرب في غزة، فان المسيحية اليوم تستخدم أسماء مستعارة لحماية “فادي” وغزيين آخرين
بينما يتوجه فادي الى عمله تحوم مسيّرات المراقبة فوقه. ان وجودهم مستمر. ان الهمهمة الرتيبة للمسيّرة مع أصوات الانفجارات يمنعانه ويمنعان غزيين مسيحيين آخرين في كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية في غزة احيانًا من النوم.
فادي الذي تُزيّن وجهه لحية خفيفة يلبس أحد طقمي الملابس الذين احضرهم معه من بيته قبل ان يُقصف بيته. انه يسير لأكثر من 30 دقيقة في كل اتجاه لان أسعار البنزين في مدينة غزة تصل الى 250 دولار للغالون الواحد. ويقول فادي ان الطرق خطرة وتوقف العصابات أحيانا الناس لكي تسلب منها هواتفها ومالها. في مرحلة مبكرة من الحرب، كان الجيش الإسرائيلي يتواصل مع السكان في حال سعى لقصف منطقتهم، لكن هذه التحذيرات أخذت تقلّ. ويعرب فادي الاعزب عن قلقه من وقوع صاروخ ما في أي وقت.
ان قضف إسرائيل لبيته وتدميره بالكامل يحزنه للغاية. منذ سنين المراهقة المتأخرة، عمل لبناء أساس لمستقبله. حين بدأت الحرب، احسّ فادي ان عمل تحضيري لمدة 11 عامًا قد ذهبت ادراج الرياح.
قبل الحرب، وحين كان يستاء او يغضب، كان يشتري لنفسه فنجان من القهوة ويدخل لسيارته ويسير بها باتجاه البحر المتوسط ويجلس على الشاطئ.
اما الآن فبحسب أقواله، فالشاطئ ملئ بالقاذورات والركام من البنايات المهدومة. ” ان حياتنا الآن ولمدة أكثر من سنة تحولت الى احباط يليه احباط. وقال: حقيقة، ليس هناك فرح. وأضاف ” لم يحدث أي شيء صالح من اول يوم في الحرب وحتى اليوم”.
في بداية تشرين اول واجه الجيش الإسرائيلي حماس الذي تنظم من جديد، وباشر في عملية أرضية جديدة في اقصى الشمال من محافظة غزة. في 26 من تشرين ثاني قصف الجيش الإسرائيلي مدرسة آوت نازحين فلسطينيين. رغم ان التقارير لا تذكر حضور حماس في هذه المدرسة تحديدًا، لكن مقاتليهم احيانًا غرسوا انفسهم ما بين المواطنين النازحين في مواقع مشابهة. رأى فادي العربات التي يجرها الحمير او العربات ذات الثلاث عجلات إضافة لسيارات الإسعاف مع سبعة او ثمانية اشخاص مكدسين في كل واحدة ويحملون الجرحى الى المستشفى الأهلي العربي الذي يتواجد في نفس المنطقة مثل كنيسة العائلة المقدسة ويعالج 700 مريض في العيادات الخارجية كل يوم.
في الشهرين الاخيرين أجبر القصف اكثر من 130 الف فلسطيني على الانتقال من المدن الشمالية في بيت لاهيا وبيت حنون وجباليا جنوبًا الى مدينة غزة حيث يسكن بحسب تقرير حديث 375 الف شخص. بضمن هؤلاء ايضًا فادي ومئات المسيحيين الآخرين الذين وجدوا لهم ملجأ في كنيسة العائلة المقدسة وكنيسة القديس بورفيوس للروم الأرثوذكس.
“لن نترك الكنيسة” ، يقول فادي، ” ليس لأننا نحصل منها على الغذاء والحماية ولكن العكس: نحن من نحمي الكنيسة”. دون وجودهم، قد تعاني الكنيسة من الاقتحامات والقصف. رغم ان القانون الدولي يعتبر استهداف المواقع الدينية جريمة حرب، فان هذه القاعدة تصبح لاغية اذا استخدم الموقع لأهداف عسكرية. لقد سبب الجيش الإسرائيلي ضررًا هذا العام لمئات المساجد الغزيّة معتبرًا إياها اوكار إرهابية ومرتين اصابت صواريخ بنايات كنيسة العائلة المقدسة.
ان عدد المؤمنين الذين بقوا في غزة هو أكثر قليلًا من 700. وفي مقابلة نشرت في 8 تشرين اول قال غبرائيل رومانيللي وهو كاهن ارجنتيني يخدم في كنيسة العائلة المقدسة ان 1071 مسيحيًا – كاثوليك، ارثوذكس وبروتستانت، كانوا في غزة في بداية الحرب. هو يقول ان 30 بالمائة من الجالية المسيحية قد فُقدت، اذ قتل 43 شخص و300 غادروا غزة عن طريق مصر. كان الفرار عن طريق المعبر الحدودي – مقابل رسوم باهظة من 5000 دولار للشخص- ممكنا حتى ايار حين استولى الجيش الإسرائيلي على معبر فيلادلفي.
ان كل من بقوا من المسيحيين الآن يعيشون في واحدة من الكنيستين في حي الزيتون في مدينة غزة. فادي نفسه دخل لكنيسة العائلة المقدسة خمسة أيام بعد الهجوم الاجرامي لحماس في 7 تشرين اول 2023. بعد 14 شهرًا، أصبحت حياة المسيحيين تتخذ منحى تقشفي روتيني. اما النازحون فينامون في عمارات المدرسة البطريركية اللاتينية، حيث تحتل عائلتين او ثلاثة كل صف. ان الملاجئ الخشبية التي بنيت في الساحة المفتوحة تخدم كصفوف مدرسية للطلاب. بالإضافة الى صلاة قداس الاحد، فان الصلوات الصباحية وقداس المساء كلها تتم في مبنى الكنيسة يوميًا. في تلك الأوقات تقرع أجراس الكنيسة الثابتة فوق ركام الحي.
يقول فادي ان الكنيسة تزوّد وجبة سخنة للنزلاء مرتين في الأسبوع. اما في باقي الوقت فان الناس تعتمد على مواردها الذاتية – المعلبات مثل التونا والفاصوليا وحبوب الحمص. ان بعض السلع الأساسية مثل الحليب والخبز واللحمة والقهوة موجودة على رفوف الدكاكين. سعر اللحمة حوالي 50 دولار للرطل والقهوة حوالي 25 دولار لكل نصف رطل.
لأشهر طويلة لم يتسنّ للنازحين المسيحيين ان يأكلوا الفواكه او الخضروات- حتى ذلك اليوم حين وصلت شحنة من المحصولات وتشمل البرتقال. وبينما أفرغوا الصناديق نظر فادي وهو غير مصدّق وقد امتلأ بشعور من النشوة وكأن الحرب انتهت.
“بذات الوقت كنت متضايقًا للغاية” ، كما قال، “لأن مجرد رؤية ابسط الأمور – الخضار والفواكه- جعلتنا مسرورون”.
ولحل احتياجات الغسيل، اشترت الكنيسة عشرة غسالات من دعم مالي حصلت عليه من خارج غزة واقامت جدولًا لحجز الادوار. وقد وضِعت مؤخرًا الواح شمسية لتزويد الكهرباء لمدة ساعات لكل صف- وهو كاف لإضاءة كل صف وأجهزة الشحن. ويتشارك حوالي 400 شخص على مراحيض مجمع الكنيسة. لكن لكي يستحم المرء يتوجب تسخين الماء في اوعية على نار وحطب. ورغم ان ادوية السكري وضغط الدم والغدة الدرقية نادرة للغاية في احسن الحالات، لكن فادي يعترف ان اغلب النازحين الغزيين وعددهم 1.9 مليون شخص يواجهون ظروفًا أسوأ: “ان اوضاعنا افضل بكثير من الغير”.
ان بعض “الغير” يسكن في جباليا وهي مدينة في شمال غزة. يقول ايمن، أحد سكان جباليا، انه يخاطر بالموت كلما يترك بيته وعائلته. غدًا ستشارك “المسيحية اليوم” بقصته وقصة شخص آخر.